هذه ليست عبارة فارغة من المعنى. ذلك أن الكلام يمكن أن يتعطل ويفقد معناه وأن يتوقف نهائياً. يمكن أن تجدي نفسك في وضع تكونين فيه غير قادرة على الكلام، أو لا تجدين العبارات الملائمة والكلام المناسب. أما أن يُعطِّل السجّان كلامك، لا أحد غير السجان، فهذا أمر آخر يصعب وصفه. حين يتعطل الكلام فجأة وأنتِ في منتصف العبارة، حين تكون شفتاك مفتوحتين لتنطقي بالكلام لكن سماعة الهاتف تتوقف عن الإرسال لأن السجان أوقف الكلام، عندها تعلق الكلمات في حلقك، ولا يعود لخروجها أي معنى لأنها لا تصل للطرف الآخر.
والطرف الآخر لا يبعد عنك إلا بضع سنتمرات لكنك غير قادرة على الوصول إليه، لأنه موجود في عالم آخر، عالم الجدران والأسلاك والحيطان والرقابة، عالم السجن والسّجان، عالم مغاير في معالمه ومفاهيمه وفي التجربة والمشاعر والأفكار. إن الطرف الآخر يقف أمامك، ترينه ويراك، لكنك لا تتمكنين من لمسه ولا هو أيضاً، ولا تصله كلماتك ولا تصلك كلماته، يحدث هذا حين تتوقف سماعة الهاتف الذي يوصل بينكما عن الإرسال ليتحول الهاتف إلى حاجز بدل وسيلة اتصال.
تحل ابتسامةٌ بدل الكلام في محاولة منك ومنه لتخفيف وطأة الصدمة، الصدمة التي تتكرر كل أسبوعين حين تقررين ألا تنشغلي خلال الزيارة بعقارب الساعة المعلقة على جانب الحائط، في طرفه الأعلى من جهة اليسار، فأنت حضرت للكلام وليس للانشغال بعقارب الساعة، قررت ألا تنشغلي بها، تلك الساعة اللعينة، الإلكترونية التي تركض الأرقام الحمراء داخلها كل الوقت لتذكرك بأن الوقت يمضي. تنشغلين عنها أحياناً لاندماجك بالمحادثة وأحياناً لتخرجينها من وعيك كي لا تسيطر هي عليك وعلى الموقف، فتجدينها فجأة توقفت عن العمل لتؤكد أن الوقت انتهى، في تلك اللحظة، في تلك الثانية التي يعلق بها الكلام، يتعطل الكلام.
هذا الأسبوع مرت ببالك خاطرة تشابه المكان والزمان واختلاف المكان والزمان، كم هي بيروت قريبة من حيفا جغرافياً وكم هي بعيدة. هي أقرب المدن وأبعدها. وهو الأمر كذلك مع السجن. كم هو قريب منك يقف على بعد خطوة، إلا أن الحاجز الزجاجي الذي يفصل بينكما كل من جهة يجعله بعيداً. هو على مرمى خطوة لكنك لا تقدرين أن توصلي له الكلام الذي تريدين ولا المشاعر ولا الأفكار، لأن الساعة اللعينة تتحكم ليس بالوقت فقط لكنها تتحكم بك وبحياتك.
بيروت والسجن والمنفى والغربة والواقع المركب. مشاعر وأفكار وواقع عجيب.
جلستِ اليوم في كرمل حيفا ونظرتِ بعيداً، للأفق. كان هناك جبل يتوضّع ممتداً بالعرض يحيط بالبحر من أمامك يطوق خاصرة البحر ليشكل معه خليجاً يكون هادئاً أحياناً وهائجاً في أحيان أخرى، والأمر لا يتعلق هذه المرة لا بالاحتلال ولا بالحدود وإنما بطبيعة الكون.
جلستِ هناك تتأملين الجبل الممتد أمامك وفكرّت، كم هي جميلة مدينتي، هناك ترين عكا تلوح قبل الأفق، عكا توأم حيفا التي تختلف عنها شكلاَ وتضاريسَ لكنها توأمها المرابط قربها كامتداد لها. لن ندخل غب إشكالية البيضة والدجاجة: فل عكا ولدت قبل حيفا؟ أم حيفا ولدت قبل عكا؟ فكلاهما أختان متلازمتان. أما الوجع الأكبر فهو الأخت الغائبة خلف الجبال، تلك المدينة التي ذهبت أحلامنا إليها ليلاً ولم تعد من هناك حتى عندما استيقظنا.
مجد حقق الحلم، حقّق حلمنا جميعاً، حلماً لم نقدر على تحقيقه بالخيال فحققه هو بالواقع.
إذن التابو يكسر، والقيد يكسر. لكن ماذا عن قيد السجن والسجان؟ كيف ومتى سيُكسر؟
مشاعر وأفكار تدور في رأسكِ وأنت تجلسين هناك تتأملين البحر الأزرق الصافي لدرجة أنك تخيلت أنك من على حافة الجبل تقدرين أن تشاهدي ما بداخله. أزرق تبعثرت على سطحه سفن كثيرة اليوم بشكل جمالي رائع، بحر ينتهي بجبل، بجبل خلفه مدينة أحببتها لكنها لم تعرفك لتحبك. بقي نظرك معلقا هناك عند الجبل وأفكارك معلقة خلفه الى أن رن جرس الهاتف. الرقم المرسوم على الشاشة لم يترك لديك مجالاً للتفكير، إنها مكالمة كنت بانتظارها.
آلو.. رددتِ وابتسامة تعلو شفتيك،
وابتدأ الكلام...